المدونة

نحو منهج جديد لفحص الاقتباس الأكاديمي

test

في عصر تزداد فيه أدوات الذكاء الاصطناعي تقدمًا، أصبحت معضلة الانتحال الأكاديمي أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. فبينما كانت تقنيات الكشف عن الاقتباس تعتمد لسنوات على مطابقة الجمل والعبارات بين النصوص، بات بإمكان الباحث – أو حتى أي مستخدم – أن يعيد صياغة نص علمي كامل باستخدام أداة ذكية لا تترك أثرًا يُرصد. الأمر الذي أوقع كثيرًا من المؤسسات الأكاديمية والمجلات العلمية في أزمة تقييم الأصالة، وأظهر الحاجة إلى آليات جديدة تتجاوز الشكل اللغوي الظاهري للنصوص.
في خضم هذه التحديات، راودتني فكرة مختلفة تمامًا. فبدلًا من التركيز على النصوص والتي يتم إعادة صياغتها، لماذا لا نتجه إلى ما يَثبت ولا يتغيّر عادةً؟ لماذا لا نُخضع الاستشهادات المرجعية للتحليل، باعتبارها البصمة الحقيقية لأي عمل أكاديمي؟ هنا تحديدًا تنشأ الآلية الجديدة التي تقوم على فحص أنماط الاستشهادات في النصوص العلمية للكشف عن الانتحال المعاد صياغته.
هذه الآلية تنطلق من ملاحظة بسيطة لكنها حاسمة: الباحث الذي يعيد صياغة محتوى علمي مقتبس، قد يغيّر الكلمات، يعيد تركيب الجمل، ويستخدم مفردات مختلفة، لكنه غالبًا ما يحتفظ بنفس الاستشهادات والمراجع، سواء بدافع الأمانة أو لارتباط المحتوى بها. فالمصدر الذي استند إليه البحث الأول، يظل أيضًا المرجع الأساسي في النسخة المعدّلة، حتى لو اختفت المعالم اللفظية للنص الأصلي. هنا يكمن جوهر الفكرة، فالتطابق بين قائمتين للمراجع، سواء في تسلسل المصادر أو عدد تكراراتها داخل المتن، يمكن أن يكشف علاقة غير مرئية بين عملين ظاهرًا مختلفين.
ما يميز هذه الآلية أنها لا تعتمد على الكلمات، بل على البنية المعرفية أو المصادر التي استند إليها الكاتب. فكما أن البصمة الوراثية لا تتغير بتغيّر الملامح، فإن بصمة الاستشهادات قد تكشف التشابه البنيوي بين نصين حتى لو اختلف الأسلوب والمفردات كليًا. وهذا بالضبط ما يجعل هذه الطريقة قادرة على تجاوز أقوى أدوات إعادة الصياغة.
حقيقة ليس لدى تصور أن هناك بحوثاً تناولت هذه النقطة تحديداً، لكنى متأكد من أن معظم أدوات الفحص التجارية المعتمدة في الجامعات على مستوى العالم لا تزال تعتمد حصريًا على تحليل النصوص، مما يجعل هذه الآلية الجديدة واعدة جدًا لسد فجوة حقيقية. وهذا ما يجعل تبنيها عربيًا أو محليًا فرصة رائدة للابتكار في مجال حماية النزاهة العلمية.
الذي يُكسب هذه الفكرة قوتها أيضًا، أنها لا تتأثر بالتحايل اللغوي. فإعادة الصياغة، التي باتت متاحة بضغطة زر، لن تُجدي نفعًا أمام فحص متقدم لأنماط المراجع داخل النصوص. بل إن الترجمة الكاملة إلى لغة مختلفة لن تنجح في إخفاء العلاقة بين بحثين إن كانا يستخدمان نفس المصادر بنفس الترتيب. من هنا، تتجاوز الآلية حدود اللغة والأسلوب، وتنتقل إلى ما يمكن تسميته بـ "البصمة المعرفية" لأي عمل علمي.
هذه الآلية قد تكون مفيدة على عدة مستويات. فهي تمنح المجلات العلمية وسيلة دقيقة لرصد الانتحال غير المباشر الذي يتفوق على أدوات الفحص النصي. كما تساعد الجامعات في تقييم مشاريع التخرج ورسائل الدراسات العليا، وتوفر للباحثين أداة لفحص مدى أصالة ما يُقدّم إليهم من أعمال، لا سيما في ظل انفجار المحتوى العلمي الذي تُنتجه أدوات الذكاء الاصطناعي. بل ويمكن أن تستخدمها مؤسسات الترجمة والكتابة الأكاديمية في تقييم المحتوى المترجَم أو المُعاد إنتاجه.
لتحقيق هذه الآلية عمليًا، سيكون من الضروري تطوير أداة تقنية قادرة على تحليل النصوص واستخراج الاستشهادات منها، ومقارنتها بقواعد بيانات ضخمة من البحوث والمراجع. الأداة يمكن أن تعتمد خوارزميات ذكية تقيس درجة التشابه الاستشهادي بين مستندين، وتنتج مؤشرًا رقميًا يساعد في اتخاذ القرار. هذه الخطوة قد تبدو تقنية في ظاهرها، لكنها في جوهرها إعادة تعريف لطريقة فهم الاقتباس العلمي، وتحويله من مجرد إجراء شكلي إلى دليل حاسم على الأصالة أو الانتحال.
في نهاية المطاف، قد لا تكون الكلمات وحدها قادرة على كشف الحقيقة، لكن المصادر التي استندت إليها تلك الكلمات، تظل دائمًا شاهدة على الطريق. ومع تطور الذكاء الاصطناعي، يصبح من الضروري أن نواجهه بذكاء مماثل، يعيد تعريف معايير الكشف والتحقق. وآلية فحص الاستشهادات قد تكون واحدة من أهم هذه الأدوات في المستقبل القريب.
تامر منصور
المركز القومي للبحوث
18 يونيو 2025

مشاركة في مواقع التواصل الاجتماعي